حدث في مثل هذا اليوم 17 يونيو 1983، وفاة الأستاذ جمعة امحمد بلخير، أحد أعلام الإدارة والبناء في ليبيا خلال القرن العشرين، ومدير أعمال كونت طرابلس الشهير “جوسابي فولبي”، الذي يُعدّ من أبرز مهندسي مشاريع البنية التحتية الليبية خلال فترة الاستعمار الإيطالي. وقد لعب الأستاذ جمعة دورًا فاعلًا ومؤثرًا في وضع أسس الإدارة الحديثة والخدمات العامة في ليبيا، قبل وبعد الاستقلال.
وُلد الأستاذ جمعة سنة 1911، وتلقى تعليمه الأول على يد العالم الشيخ علي بقوش، ثم أكمل دراسته الابتدائية في مدينة زوارة، حيث برز بين أقرانه بنبوغه وتمكنه من اللغة الإيطالية التي أتقنها بشكل لافت، حتى قيل إنه كان يتحدثها ويدوّن بها بطلاقة تفوق بعض الناطقين بها.
نقطة التحول في مسيرته جاءت سنة 1928، عندما التقى بالكونت جوسابي فولبي خلال رحلته الاستكشافية إلى ليبيا. أرسل جمعة حينها رسالة راقية باللغة الإيطالية إلى البعثة العلمية، أثارت الدهشة، إذ لم يصدق أحد أن شابًا ليبيًا كتبها. طُلب منه أن يكتب رسالة مماثلة أمام الحضور، ففعل ببراعة، ومن هناك بدأت علاقته المهنية الطويلة مع الكونت فولبي، ليتدرج في المناصب حتى أصبح مدير أعماله الخاص، خصوصًا أثناء تولي فولبي إدارة ولاية طرابلس، حيث ساهم في بناء المدارس، المعاهد، تنظيم الشرطة، الجيش، وشبكات البنية التحتية، من طرق وسكك حديدية.
في زيارة لاحقة إلى تورينو في إيطاليا برفقة الكونت، تعرّض لإهانة من أحد أفراد أسرته، فقرر ترك الوظيفة نهائيًا والعودة إلى ليبيا، رغم اعتذار فولبي وإلحاحه عليه. كان هذا القرار نابعًا من كرامته واعتزازه بنفسه، ليبدأ بعدها صفحة جديدة في حياته المهنية.
بعد عودته، عُيّن مديرًا ثانيًا للأشغال العامة، المعنية بالسكك الحديدية والمرافق العامة في ولاية طرابلس، وهي وظيفة تشمل إشرافه على مناطق واسعة منها جبل نفوسة، غريان، الزاوية، راس جدير، وغدامس. بعد الاستقلال، نُقل إلى غريان، ثم إلى الخُمس، حيث استمر في عمله كمدير للمرافق العامة خلال ستينيات القرن الماضي، ووُصف دائمًا بـالوطني الصادق والإداري المحنّك الذي خدم ليبيا بإخلاص.
برحيله سنة 1983، فقدت ليبيا أحد رجالها الذين أسّسوا للحداثة الإدارية بتفانٍ وصمت، رجل جمع بين الخبرة، والكفاءة، والكرامة، وترك بصمة لا تُنسى في بناء الدولة الليبية الحديثة، بعيدًا عن الأضواء، لكنه ظل حيًا في ذاكرة من عرفوه وعملوا معه.